ذكر القاضي التنوخي في كتابه (الفرج بعد الشدة) : أنه أسرّ الوشاة للخليفة العباسي هارون الرشيد أن هناك أمير من بواقي بني أمية بدمشق ، وهو ذو جاه وأبناء وموالي يحملون السلاح ، وأنه خطر على الدولة ، فأمر قائد الشرطة (منارة) لكي يأتيه به.
فذهب إليه ودخل مع شرطته دار الأموي بلا إستئذان ، لكي يخيفهم ، لكنهم أكرموه وأجلسوه ، فسألهم عن الأموي ، فذهبوا ينادونه ، فجاء بلباس الحمام , ورحب به وسأله عن حال الخليفة ، ووضع الطعام ، فقال له : "تقدم يا منارة فساعدنا بالأكل" فاستهجن رئيس الشرطة مناداته بإسمه هكذا بلا ألقاب ولا إحترام
فقال له (منارة) : ما بي إلى ذلك حاجة.
لكن الأموي لم يهتم ، وبدأ يأكل ، ثم غسل يده ، وجاؤوا بأطباق فاكهة ، فدعى الأموي (منارة) مجدداً ، وهو يرفض ، مكفهر الوجه ، والأموي لا يهتم.
فقال (منارة) في نفسه : "هذا جبار عنيد" ، وخاف منه ، وعلى نفسه وشرطته ، إن هاجموهم من فورهم. لكن هذا لم يحدث ، بل جاؤا بالبخور ، ثم قاموا إلى الصلاة ، ثم دعوا طويلاً ، ثم أقبل الأموي إلى (منارة) فسأله عن حاجته وسبب قدومه ، بإبتسامة على وجهه ، فأخبره (منارة) : أن الخليفة غاضب ، وهو يطلبه فوراً مقيداً بالأغلال.
فنادى الأموي أبناءه ومواليه ، فاجتمعوا ، فقال (منارة) في نفسه أنهم سيقتلوهم لا محالة ، لكن الذي حدث هو أن الأموي أخبرهم أن الخليفة يطلبه ، وأنه سيذهب مع (منارة) ، ووصاهم بما يفعلونه في غيابه ، وانطلق معه
وفي الطريق إلى الخليفة ، والأموي مقيد بالأغلال ، ظل يحدث (منارة) عن الحقول والبساتين في ريف الشام ، ويخبره عن الزرع والفاكهة ، ومواسمها.
فضاق (منارة) فانفجر فيه: "والله إني لشديد التعجب منك"
فقال : "ولم؟"
فرد : "أخبرك أن الخليفة غاضب ، وأنتزعك من دارك مقيداً ، لا تدري ما سيحدث لك ، ومع هذا أنت فارغ قليل الفكر ساكن القلب ، تصف البساتين والضِياع ، وقد ظننتك شخصاً عاقلاً"
فسكت ثم قال : "إنا لله وإنا إليه راجعون ، خاب ظني بك يا منارة ، ظننتك رجلاً كامل العقل ، وما حللت بمقامك عند الخليفة إلا برجاحة عقلك ، فإذا بك هكذا تقول ، إعلم يا منارة أن الله بيده ناصيتي وناصيتك وناصية الخليفة ، ولا نملك لأنفسنا ولا لغيرنا نفعاً ولا ضراً ، فلم أتعجل الهم وأتسلف الغم فيما هو بيد الله ، وأين حسن الظن بالله ، وأين التوكل والصبر والرضا والتفويض ، لكن الآن وقد عرفت قلة عقلك ، فإني لا أكلمك كلمة واحدة"
ثم ظل يسبّح ويستغفر ، حتى دخلا قصر الخليفة ، فترك الأموي عند الحرس ، ودخل على الخليفة ، فأخبره القصة ، فضحك ، فأدخله عليه ، وقربه ، وسأله أن يطلب حاجته ، لكن الأموي قال : " إستغنيت بكرمك عن مسألتك" ، ومدح أحوال البلاد والعباد ، وظلا يتحادثان طويلاً مثل صديقين يعرفان بعضيهما منذ زمن طويل.
و(منارة) يراقب هذا وهو يهز رأسه ويضرب كفاً بكف
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق